الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} قوله عز وجل: {المر تِلْكَ آيات الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق}: قال ابن عباس: هذه الحروفُ هي مِنْ قوله: «أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى». وقوله سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ...} الاية: قال جمهور النَّاس: لاَ عَمَدَ للسموات ألبتَّة، وهذا هو الحَق و«العمدُ»: اسم جَمْعٍ. قوله سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}: «ثم»؛ هنا: لعطفِ الجُمَلِ، لا للترتيبِ؛ لأن الاستواء على العَرْش قبل رَفْعِ السموات، ففي الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ " وقد تقدَّم القول في هذا، وفي معنى الاستواء. * ت *: والمعتَقَدُ في هذا: أنه سبحانَهُ مستو على العرشِ على الوَجْهِ الذي قاله، وبالمعنَى الذي أراده استواء منزَّهاً عن المماسَّة والاستقرار والتمكُّن والحلولِ والانتقال، لا يحملُهُ العَرْش، بل العرشُ وَحَمَلَتُهُ محمُولُون بلُطْفِ قُدْرته، ومَقْهُورون في قَبْضته، كان اللَّه ولا شيءَ معه، كان سبَحَانه قَبْلَ أَنْ يخلق المَكَانَ والزمَانَ، وهو الآنَ على ما عليه كان. وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر}: تنبيهٌ على القُدْرة، وفي ضِمْن الشمسِ والقَمَر الكواكِبُ، ولذلك قال: {كُلٌّ يَجْرِي} أي: كلُّ ما هو في معنى الشَّمْسِ والقَمَرِ، و«الأجلُ المسمَّى»: هو انقضاء الدنيا، وفسادُ هذه البنْيَةِ. {يُدَبِّرُ الأمر}: معناه: يُبْرمه وينفذه، وعبَّر بالتدبير، تقريباً للأفهام، وقال مجاهد: {يُدَبِّرُ الأمر}: معناه يقضيه وحْدَهُ. و {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}: أي: توقنون بالبَعْثِ.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}: لما فرغَتْ آيات السماء، ذُكِرَتْ آيات الأرض، وال {رَوَاسِيَ}: الجبالُ الثابتة. وقوله سبحانه: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين}: «الزَوْجِ»؛ في هذه الآية: الصِّنْف والنَّوْع، وليس بالزوْجِ المعروفِ في المتلازمين الفَرْدَيْن من الحيوان وغيره؛ ومنه قوله سبحانه: {سبحان الذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} [يس: 36]، ومنه: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]، وهذه الآية تقتضِي أنَّ كلَّ ثمرةٍ، فموجودٌ منها نوعانِ، فإِن اتفق أنْ يوجد من ثمرةٍ أكْثَرُ من نوعَيْنِ، فغير ضارٍّ في معنى الآية، و{قِطَعٌ}: جَمْعُ قِطْعَة، وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جَاوَرَ وقَرُبَ بعضه من بعض؛ لأن اختلاف ذلك في الأكْلِ أَغربُ، وقرأ الجمهور: «وَجَنَّاتٌ»- بالرفع-؛ عطفاً على «قِطَعٌ»، وقرأ نافع وغيره: «وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ صِنْوَانٌ وَغَيْرِ صِنْوَانٍ}- بالخفض في الكل-؛ عطفاً على «أعناب»، وقرأ ابن كثير وغيره: «وزرعٌ»- بالرفع في الكل-؛ عطفاً على «قطع»، و{صِنْوَانٌ}: جمع صنْو، وهو الفرع يكونُ مع الآخَرِ في أصْلٍ واحدٍ، قال البراءُ بْنُ عازبٍ: «الصِّنْوَان»: المجتمع، وغَيْرُ الصِّنوان: المفترق فرداً فرداً وفي «الصحيحِ»: «العَمُّ صِنْوُ الأَبِ»، وإِنما نص على الصِّنْوان في هذه الآية؛ لأنها بمثابة التجاوُر في القطع تظهر فيها غرابةُ اختلاف الأَكْلِ، و{الأكل}- بضم الهمزة-: اسم ما يؤكل، والأكل المَصْدَر، وحكى الطبري عن ابن عبَّاس وغيره: {قِطَعٌ متجاورات}: أي: واحدة سبخة، وأخرى عَذْبَة، ونحو هذا من القولِ، وقال قتادة: المعنى: قُرًى مُتَجَاوِرَاتٌ. قال * ع *: وهذا وجْهٌ من العبرة، كأنه قال: وفي الأرض قِطَعٌ مختلفاتٌ بتخصيصِ اللَّه لها بمعانٍ فهي تُسْقَى بماءٍ واحدٍ، ولكن تختلف فيما تُخْرِجُه، والذي يظهر من وصفه لها بالتجاوُرِ؛ أنها من تُرْبةٍ واحدةٍ، ونوعٍ واحدٍ، وموضِعُ العِبْرة في هذا أَبْيَنُ، وعلى المَعْنَى الأول قال الحَسَنُ: هذا مَثَلٌ ضربه اللَّه لقلوبِ بَني آدم: الأرضُ واحدةٌ، وينزل عليها ماءٌ واحدٌ من السَّماء، فتخرجُ هذه زهرةً وثمرةً، وتخرجُ هذه سبخةً وملحاً وخبثاً، وكذلك النَّاس خُلِقُوا من آدم، فنزلَتْ عليهم من السماء تذكرةٌ، فَرَقَّتْ قلوبٌ وَخَشَعَتْ، وقَسَتْ قلوبٌ ولَهَتْ. قال الحسنُ: فواللَّه، ما جالَسَ أحدٌ القُرْآن إِلاَّ قَامَ عَنْه بزيادةٍ أو نقصانٍ، قال اللَّه تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إِلاَّ خَسَارًا} [الاسراء: 82].
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} وقوله سبحانه: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، المعنى: وإِن تعجبْ، يا محمَّد، مِنْ جهالتهم وإِعراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ، فهم أهْلٌ لذلك، وَعَجَبٌ غريبٌ قولُهم: أنعود بعد كوننا تراباً، خلقاً جديداً؛ {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ}؛ لتصميمهم على الجُحُود وإِنكارهم للبَعْث، {وأولئك الأغلال فِي أَعْنَاقِهِمْ}: أي: في الآخرة، ويحتملُ أنْ يكون خبراً عن كونهم مغلَّلين عن الإِيمان؛ كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8]. وقوله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة...} الآية: تبيينٌ لِخَطَئِهِمْ كطلبهم سقوطَ كِسَفٍ من السماء، وقولِهِمْ: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناسٍ كثيرٍ، وقرأ الجمهور: {المَثُلاَثُ}- بفتح الميم وضم الثاء-، وقرأ مجاهد «المَثَلاَثُ»- بفتح الميم والثاء- أي: الأخذة الفَذَّة بالعقوبة، ثم رجَّى سبحانه بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}، ثم خوَّف بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب}: قال ابن المسيِّب: لما نَزِلَتْ هذه الآية، قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ مَا تَهَنَّأَ أَحَدٌ عَيْشاً، وَلَوْلاَ عِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلَّ أَحَدٍ "، وقال ابن عبَّاس: ليس في القرآن أَرجَى من هذه الآية: {والمَثُلاَثُ}: هي العقوباتُ المنكِّلات التي تجعل الإِنسان مثلاً يُتَمَثَّلُ به؛ ومنه التمثيلُ بالقَتْلى؛ ومنه: المُثْلَةُ بالعبيد. ويقولون: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ}: هذه من اقتراحاتهم، والآية هنا يرادُ بها الأشياءُ التي سمَّتها قريشٌ؛ كالمُلْكِ، والكَنْزِ، وغيرِ ذلك، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد، قال عكرمةُ، وأبو الضُّحَى: المرادُ ب «الهادي» محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ ف «هَادٍ» عطفٌ على «منذر»؛ كأنه قال: إِنما أَنْتَ مُنْذِرٌ وهادٍ لكلِّ قومٍ، و«هاد»؛ على هذا التأويل: بمعنى داعٍ إِلى طريق الهُدَى، وقال مجاهدٌ وابنُ زَيْد: المعنى: إِنما أَنْتَ منذِرٌ، ولكلِّ أُمَّة سَلَفَتْ هادٍ، أي: نبيٌّ يَدْعُوهم، أي: فليس أمرُكَ يا محمَّد ببدْعٍ، ولا مُنْكَر، وهذا يشبه غرَضَ الآية، وقالَتْ فرقة: «الهَادِي» في هذه الآية: اللَّه عزَّ وجلَّ، والألفاظ تَقْلَقُ بهذا المعنَى، ويعرف أنَّ اللَّه تعالَى هو الهادِي من غير هذا المَوْضِعِ، والقولانِ الأولان أَرْجَحُ ما تُؤُوِّلَ في الآية.
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} وقوله سبحانه: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ}: هذه الآيات أمثالٌ منبِّهات على قدرة اللَّه تعالَى القاضِيَةِ بتجويزِ البَعْثِ، {وَمَا تَغِيضُ الأرحام}: معناه: ما تنقُصُ، ثم اختلف المتأوِّلون في صُورَةِ الزِّيادة والنُّقْصَان، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ غَيْضَ الرحِمِ وهو نقْصُ الدمِ على الحَمْل، وقال الضَّحَّاك: غَيْضُ الرَّحِمِ: أنْ تسقط المرأة الوَلَدَ، والزيادة أنْ تضعه لمدَّةٍ كاملةٍ، ونحوُه لقتادة. وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}: عامٌّ في كل ما يدخلُهُ التقديرُ، و{الغيب}: ما غاب عن الإِدراكات، و{الشهادة}: ما شُوهِدَ من الأمور. وقوله: {الكبير}: صفةُ تعظيمٍ، و{المتعال}: من العلو. وقوله سبحانه: {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القول...} الآية: أيْ: لا يخفى على اللَّه شيءٌ، وال {سَارِبٌ}؛ في اللغة: المتصرِّف كيف شاء. وقوله سبحانه: {لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله}: المعنى: جعل اللَّه للعبد معقِّباتٍ يحفظونه في كلِّ حالٍ من كلِّ ما جرى القَدَرُ باندفاعه، فإِذا جاء المَقْدُور الواقعُ، أسلم المَرْءُ إِليه، وال {معقبات}؛ على هذا التأويل: الحَفَظَةُ على العِبَادِ أَعمالهم، والحَفَظَةُ لهم أيضاً؛ قاله الحسن، وروى فيه عن عثمانَ بْنِ عَفَّان حديثاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى التأويلات في الآية، وعبارةُ البخاريِّ: {معقبات}: ملائكةٌ حَفَظَةٌ يَعْقُبُ الأَوَّلُ منها الآخِرَ. انتهى. وقالَتْ فرقةٌ: الضمير في «له» عائدٌ على اسم اللَّه المتقدِّم ذكره، أي: للَّه معقِّبات يحفظون عَبْده، والضمير في قوله: {يَدَيْهِ} وما بعده عن الضمائر عائدٌ على العَبْد، ثم ذكر سبحانه أنه لا يغيِّر هذه الحالة مِنَ الحفْظِ للعبدِ؛ حتَّى يغير العبد ما بنَفْسِهِ، وال {معقبات}: الجماعاتُ التي يَعْقَب بعضُها بعضاً، وهي الملائكةُ، وينظر هذا إِلى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " يَتَعَاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ... " الحديث، وفي قراءة أُبيِّ بْنِ كَعْب: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ»، وقرأ ابن عباس: «وَرُقَبَاءُ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ»، وقوله: {يَحْفَظُونَهُ}: أي: يحرسونه ويذبُّون عنه، ويحفظونَ أيضاً أعماله، ثم أخبر تعالى؛ أَنه إِذا أَراد بقومٍ سوءاً، فلا مردَّ له، ولا حِفْظَ منه.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)} وقوله سبحانه: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق...} الآية: قد تقدَّم في أول البَقَرة تفسيرُهُ، والظاهر أنَّ الخوف إِنما هو من صَوَاعِقِ البَرْق، والطَّمَع في الماء الذي يكونُ معه، وهو قولُ الحسن، و{السَّحَابَ}: جمع سحابَة؛ ولذلك جمع الصفة، وال {الثِّقَالَ}: معناه: بحملِ الماءِ، قاله قتادة ومجاهد، والعربُ تصفها بذلك، وروى أبو هريرة " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ، قَالَ: «سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ» "، وقال ابن أبي زكرياء: مَنْ قَالَ إِذا سَمِعَ الرعْدَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وبِحَمْدِهِ، لَمْ تُصِبْهُ صَاعِقَةٌ. * ت *: وعن عبد اللَّه بن عُمَرَ، قال: " كان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّواعِقَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ، لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِك» "، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ والحَاكِمُ في «المستدرك»، ولفظهم واحد انتهى من «السلاح»، قال الداووديُّ: وعن ابن عَبَّاس، قال: مَنْ سمع الرعْدَ، فقال: «سُبْحَانَ الذي يُسَبِّح الرعْد بحَمْده، والملائِكَةُ مِنْ خيفته، وهو على كلِّ شيء قدير»، فإِن أصابته صاعقةٌ، فعليَّ ديته، انتهى. وقوله سبحانه: {وَيُرْسِلُ الصواعق...} الآية: قال ابن جُرَيْج: كان سبَبُ نزولها قصَّةَ أَرْبَدَ، وعَامِرِ بن الطُّفَيْلِ، سألا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يجعلَ الأمْرَ بَعْده لعامِرِ بْنِ الطُّفَيْل، ويدخلا في دِينِهِ، فأبَى عليه السلام ثم تآمَرَا في قَتْل النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: أَنا أَشْغَلُه لَكَ بالحديثِ، واضربه أَنْتَ بالسَّيْف، فجعل عامرٌ يحدِّثه، وأَرْبَدُ لاَ يَصْنَعُ شيئاً، فلما انصرفا، قَالَ له عَامِرٌ: وَاللَّهِ، يَا أَرْبَدُ، لاَ خِفْتُكَ أبداً، وَلَقَدْ كُنْتُ أخافُكَ قبل هذا، فقال له أَرْبَدُ: واللَّهِ، لَقَدْ أردتُّ إِخراج السَّيْفِ، فَمَا قَدَرْتُ على ذلك، ولَقَدْ كُنْتُ أَراك بَيْنِي وبَيْنَهُ، أَفَأَضْرِبُكَ، فمَضَيَا للحَشْدِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأصابَتْ أَربَدُ صَاعِقَةً، فقتلَتْهُ، و{المحال}: القوَّة والإِهلاك. * ت *: وفي «صحيح البخاري»: {المحال}: العقوبة. وقوله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الحق}: الضمير في «له» عائدٌ على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ. قال ابنُ عَبَّاس: و{دَعْوَةُ الحق}: «لا إله إِلا اللَّه»، يريد: وما كان من الشريعةِ في معناها. وقوله: {والذين}: يراد به ما عُبِدَ من دون اللَّه، والضَّمير في {يَدْعُونَ} لكفَّار قريشٍ وغيرهم، ومعنى الكَلاَمِ: والذين يدعونهم الكفَّارُ في حوائِجِهِم ومنافِعِهِم {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ}، ثُمَّ مَثَّلَ سبحانه مثالاً لإِجابتهم بالذي يَبْسُطُ كَفَّيْهِ نحو الماء، ويشير إِليه بالإِقبال إِلى فيه، فلا يبلغ فَمَهُ أَبداً، فكذلك إِجابة هؤلاء والانتفاعُ بهم لا يَقَعُ. وقوله: {هُوَ}: يريد به الماءَ، وهو البالغُ، والضمير في {بَالِغِهِ} للفم، ويصحُّ أنْ يكون هو يراد به الفم، وهو البالغ أيضاً، والضمير في {بَالِغِهِ} للماء؛ لأن الفم لا يَبْلُغ الماء أبداً على تلك الحال، ثم أخبر سبحانه عن دعاءِ الكافرين؛ أنه في انتلاف وضلالٍ لا يفيدُ.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السموات والأرض...} الآية: تنبيهٌ على قدرته وعظمته سبحانه، وتسخيرِ الأشياءِ له، والطَّعْنِ على الكفَّار التارِكِينَ للسُّجود، و{مَن}: تَقَعُ على الملائكةِ عموماً، و«سُجُودُهُمْ»: طوع، وأما أهْلُ الأرض، فالمؤمنون داخلُونَ في {مَن}، وسجودُهم أيضاً طَوْع، وأما سجودُ الكَفَرة، فهو الكَرْه، وذلك على معنيين، فإِن جعلنا السجُودَ هذه الهيئة المعهودَةَ، فالمراد من الكَفَرَة مَنْ أسلم، خَوْفَ سيفِ الإِسلام؛ كما قاله قتادة، وإِن جعلنا السُّجود الخضُوعَ والتذلُّل، حَسَب ما هو في اللغة، فيدخلُ الكفَّار أجمعون في {مَن}؛ لأنه ليس من كافرٍ إِلا ويلحقه من التذلُّل والاستكانة لقدرة اللَّه تعالى أنواعٌ أكثر من أنْ تحصَى بحسب رَزَايَاهُ، واعتباراته. وقوله سبحانه: {وظلالهم بالغدو والأصال}: إِخبار عن أَنَّ الظِّلال لها سُجُودٌ للَّه تعالى؛ كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظلاله} [النحل: 48]، وقال مجاهد: ظلُّ الكافر يسجُدُ طوعاً، وهو كاره ورُوِيَ أن الكافر إِذا سَجَد لصنمه، فإِن ظلَّه يسجُدُ للَّهِ حينئذٍ، وباقي الآية بيِّن، ثم مَثَّل الكفَّار والمؤمنين بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير}، وشبه الكافر بالأعمى، والكُفْرَ بالظلماتِ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ، والإِيمان بالنور. وقوله سبحانه: {قُلِ الله خالق كُلِّ شَيْءٍ}: لفظ عامٌّ يراد به الخصوصُ؛ كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع. وقوله سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً}: يريد به المَطَرَ، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: «الأودية»: ما بين الجبالِ مِنَ الانخفاض والخَنَادِقِ، وقوله: {بِقَدَرِهَا}: يحتمل أنْ يريد بما قُدِّرَ لها من الماءِ، ويحتمل أنْ يريد بقَدْر ما تحمله على قَدْر صغرها وكِبَرها. * ت *: وقوله: {فاحتمل} بمعنى: حَمَلَ، كاقتدر وقَدَرُ. قاله * [ص] *. و {الزبد} ما يحمله السيْلُ من غُثَاء ونحوه، و«الرابِي»: المنتفخ الذي قَدْ ربا، ومنه الرَّبْوَة. وقوله سبحانه: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع زَبَدٌ مِّثْلُهُ}: المعنَى: ومن الأشياء التي توقِدُونَ عليها ابتغاءَ الحُلِيِّ، وهي الذَهَبُ والفضَّة، أو ابتغاء الاستمتاع بها في المرافِقِ، وهي الحديدُ والرَّصَاصُ والنُّحَاسُ ونحوها من الأشياء التي تُوقِدُونَ عليها، فأخبر تعالَى أنَّ من هذه أَيضاً إِذا أحمي علَيْها يكونُ لها زَبَدَ مماثِلٌ للزَّبَد الذي يحملُه السَّيْل، ثم ضرب سبحانه ذلك مثَلاً للحقِّ والباطِلِ، أي: إِن الماء الذي تشربه الأرْضُ من السيل، فيقَعُ النفْعُ به هو كالحَقِّ، والزَّبَد الذي يخمد وينفش ويَذْهَب هو كالبَاطِلِ، وكذلك ما يخلص من الذَّهَبَ والفضَّة والحديد ونحوه هو كالحَقِّ، وما يذهَبُ في الدُّخَان هو كالبَاطِلِ. وقوله: {جُفَاءً}: مصدر من قولهم: «أَجْفَأَتِ القدْرُ» إِذا غلَتْ حتى خَرَجَ زَبَدُها وذهب. وقال * ص *: {جُفَاءً}: حال، أي: مضمحلاًّ متلاشياً، أبو البقاء: وهمزته منقلبة عن واوٍ، وقيل: أصل. انتهى. وقوله: {مَا يَنفَعُ الناس}: يريد الخالِصَ من الماء ومِنْ تلك الأحجار. وقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى}: ابتداءُ كلامٍ، و{الحسنى}: الجنة. {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ}: هم الكَفَرة، و{سُوءُ الحِسَابِ}: هو التقصِّي على المحاسَب، وأَلاَّ يقع في حسابِهِ من التجاوُزِ شَيْءٌ؛ قاله شَهْرُ بن حَوْشَبٍ والنَّخَعِيُّ وَفَرْقَدٌ السَبَخِيُّ وغيرهم.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} وقوله سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى...} المعنى: أسواءٌ مَنْ هداه اللَّه، فَعَلِمَ صدْقَ نبوَّتك، وآمن بك؛ كمن هو أعمَى البصيرةِ باقٍ على كُفْره؛ روي أنَّ هذه الآية نزلَتْ في حمزةَ بْنِ عَبْدِ المطَّلب، وأَبِي جَهْل، وهي بَعْدَ هذا مثَالٌ في جميع العالم، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب}: «إِنما»؛ في هذه الآية: حاصرة، أي: إِنما يتذكَّر، فيؤمن ويراقب اللَّه مَنْ له لُبٌّ، ثم أخذ في وصفهم، فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله...} الآية: قال الثعلبيُّ: قال عبد اللَّهِ بنُ المبارَكِ: هذه ثمانِ خِلاَلٍ مسيِّرةٌ إِلى ثمانيةِ أبوابِ الجنةِ، وقال أبو بَكْرٍ الوَرَّاقُ: هذه ثمانِ جُسُورٍ، فمن أراد القربة مِنَ اللَّه عَبَرَهَا. انتهى. وباقي الآية ألفاظها واضحَة، وأنوارها لِذَوِي البصائر لائحَةْ. {وَيَدْرَءُونَ}: يدفعون. قال الغَزَالِيُّ: لما ذَكَرَ هذه الآيةَ: والذي آثر غُرُورَ الدنيا على نعيمِ الآخرةِ، فَلَيْسَ من ذوي الأَلْبَابِ، ولذلك لا تَنْكَشِفُ له أَسْرارُ الكتاب، انتهى. و {جنات}: بدل من {عُقْبَى} وتفسيرٌ لها، و{عَدْنٍ}: هي مدينةُ الجَنَّة ووَسَطُها، ومعناها: جنَّات الإِقامة؛ مِنْ عَدَنَ في المَكَانِ، إِذا أقام فيه طويلاً، ومنه المَعَادِنُ، و{جنات عَدْنٍ}: يقال: هي مَسْكن الأنبياءِ والشُّهَداء والعُلَماء فَقَطْ؛ قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي، ويروَى أَنَّ لها خَمْسَةَ آلافِ باب، وقوله: {وَمَن صَلَحَ}: أي: عمل صالحاً، {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سلام عَلَيْكُم}: أي: يقولون: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، والمعنى: هذا بما صَبَرْتُم، وباقي الآية واضحٌ. وقوله سبحانه: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله...} الآية: هذه صفةُ حالٍ مضادَّةٍ للمتقدِّمةِ- نعوذ باللَّهِ من سَخَطه-.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)} وقوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ...} الآية: لما أخبر عَمَّن تقدَّم وصفه بأنَّ لهم اللعنةَ وسُوءَ الدار، أنْحَى بعد ذلك على أغنيائهم، وحقَّر شأنهم وشَأْنَ أموالهم، المعنى: إِنَّ هذا كلَّه بمشيئة اللَّه يَهَبُ الكافرَ المالَ؛ ليهلكه بِهِ، ويَقْدِرُ على المؤمِنِ؛ ليُعْظِمَ ذلك أَجْرَهُ وذُخْرَهُ. وقوله: {وَيَقْدِرُ}: من التَّقْدِيرِ المناقِضِ للبَسْط والاتساع. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ...} الآية: رد على مقترحي الآيات من كفَّار قريشٍ؛ كما تقدَّم. وقوله سبحانه: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله}: «الذين»: بدلٌ مِنْ «مَنْ» في قوله: {مَنْ أَنَابَ}، وطمأنينة القلوبِ هي الاستكانة والسرورُ بذكْر اللَّه، والسكونُ به، كمالاً به، ورضاً بالثواب عليه، وجودة اليقين، ثم قال سبحانه: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}: أي: لا بالآياتِ المُقْتَرحةِ التي ربَّما كُفِرَ بعدها؛ فنزل العذاب، «والذين» الثاني: مبتدأ، وخبره {طوبى} لَهُمْ. واختلف في معنى {طوبى}، فقال ابن عباس: {طوبى}: اسمُ الجنَّةِ بالحَبَشِيَّةِ، وقيل: {طوبى}: اسم الجنَّة بالهِنْدِيَّة، وقيل: {طوبى}: اسم شجرة في الجنَّة، وبهذا تواترتِ الأحاديثُ؛ قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " طُوبَى اسم شَجَرَةٍ في الجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ المُجِدُّ في ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا... " الحديث. قال * ص *: {طوبى}: «فُعْلَى» من الطِّيب، والجمهور أنها مفردٌ مصْدَرٌ؛ كل «سُقْيَا وبُشْرَى». قال الضَّحَّاك: ومعناها: غِبْطَةً لهم، قال القُرطُبيُّ: والصحيحُ أنها شجرةٌ؛ للحديث المرفوع. انتهى. * ت *: وروى الشيخُ الحافظ أبو بكْرٍ أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ ثابتِ بنِ الخَطِيبِ البَغْدَادِيُّ في «تاريخه»، عن شيخه أبي نُعَيْمٍ الأَصبهانيِّ بسنده عن أبي سَعِيدٍ الخدريِّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِك! قَالَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى، ثُم طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا طُوبَى؟ قَالَ: «شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا» ". انتهى من ترجمة «أحمد بن الحَسَن».
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)} وقوله تعالى: {كذلك أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ}: أي: كما أجرينا عادَتَنا، {كذلك أَرْسَلْنَاكَ...} الآية. وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن}: قال قتادة: نزلَتْ في قريش: لما كُتِبَ في الكتاب: {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} في قصَّة الحُدَيْبِيَة، فقال قائلهم: نَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرحمن. قال * ع *: وذلك منهم إِباءةُ اسم فقطْ، وهروبٌ عن هذه العبارة التي لم يَعْرِفُوها إِلا مِنْ قِبَل النبيِّ عليه السلام، وال {مَتَابِ}: المرجعُ؛ ك «المآب» لأن التوبة هي الرجُوعُ. وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض...} الآية: قال ابن عباس وغيره: إِن الكفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أزِحْ عَنَّا وَسَيِّرِ جَبَلِيْ مَكَّةَ، فَقَدْ ضَيَّقَا عَلَيْنَا، واجعل لَنَا أَرْضَنَا قِطَعَ غِرَاسَةٍ وَحَرْثٍ، وَأَحْي لَنَا آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا، وَفُلاَناً وفُلاَناً، فنزلَتِ الآيةُ في ذلك معلمةً أنهم لا يُؤْمِنُونَ، ولو كان ذلك كله. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا...} الآية: «يَيْئَس»: معناه: يعلم، وهي لغة هَوَازِنَ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة: «أَفَلَمْ يَتَبَيَّن»، ثم أخبر سبحانه عن كُفَّار قريشٍ والعرب؛ أنهم لا يزالُونَ تصيبُهُم قوارِعُ من سرايا النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغزواته، ثم قال: «أَوْ تُحَلُّ أَنْتَ يَا محمَّد قريباً من دارهم». [هذا تأويلُ ابنُ عَبَّاس وغيره. وقال الحسنُ بن أبي الحَسَن: المعنى: أو تَحُلُّ القارعةُ قريباً من دارهم]، و{وَعْدُ الله}؛ على قول ابن عباس وغيره: هو فَتْحُ مَكَّة، وقال الحسن: الآيةُ عامَّة في الكُفَّارِ إِلى يوم القيامة، وإِنَّ حال الكَفَرة هَكَذَا هي إِلى يوم القيامة، {وَعْدُ الله}: قيامُ الساعة، وال {قَارِعَةٌ}: الرزيَّة التي تقرع قلْبَ صاحبها. وقوله سبحانه: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ...} الآية: تأنيسٌ وتسليةٌ له عليه السلام، قال البخاري: {فَأَمْلَيْتُ}: أي: أطلت من المليي والملاوة؛ ومنه: مَلِيًّا، ويقال للواسِعِ الطويلِ من الأرض: مَلًى من الأرض. انتهى.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}: أي: أهو أحقُّ بالعبادة أم الجمادات. وقوله: {قُلْ سَمُّوهُمْ}: أي: سَمُّوا من له صفاتٌ يستحقُّ بها الألوهية، و{مَكْرُهُمْ}: يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانَتْ بسبيل مناقَضَةِ الشرع، و{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا}: أي: بالقتل والأسْر والجُدُوبِ وغير ذلك، و{أَشُقَّ}: من المشقَّة، أي: أصعب، والواقي الساتِرُ علَى جهة الحمايَةِ من الوقاية. وقوله سبحانه: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا}: قد تقدم تفسير نظيره، وقوله: {أُكُلُهَا}: معناه: ما يؤكَلُ فيها.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} وقوله سبحانه: {والذين آتيناهم الكتاب يَفْرَحُونَ...} الآية: قال ابن زيْدٍ: المراد بالآية: مَنْ آمَنَ مِنْ أهْل الكتاب؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وغيره. قال * ع *: والمعنى مَدْحَهم، وباقي الآية بيِّن.
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} وقوله سبحانه: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ...}: المعنى أنَّ اللَّه سبحانه يمحو من الأمور ما يشاء، ويغيِّرها عن أحوالها مما سَبَقَ في علْمه مَحْوُهُ وتغييرُهُ، ويثبتها في الحَالةِ التي يَنْقُلُها إِليها حَسَبَ ما سَبَقَ في علْمه. قال * ع *: وأصوَبُ ما يفسَّر به {أُمُّ الكتاب}: أنه كتاب الأمورِ المجزومَةِ التي قدْ سَبَقَ القضاء فيها بمَا هو كائنٌ، وسبق ألاَّ تبدَّل ويبقَى المحْوُ والتثبيت في الأمور التي سَبَقَ في القضاء أنْ تبدَّل وتمحَى وتُثْبَتَ؛ قال نحوه قتادة، وقوله سبحانه: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ}: «إِن»: شرطٌ دخلَتْ عليها «ما»، وقوله: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}، «أو» عاطفةٌ، وقوله: {فَإِنَّمَا}: جوابُ الشرط، ومعنى الآية: إِنْ نُبَقْكَ يا محمَّد، لترَى بعض الذي نَعِدُهم، أو نتوفينَّك قبل ذلك، فعلى كلا الوجْهَيْن، فإِنما يلزمُكَ البلاغَ فقَطْ، والضمير في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ}: عائد على كفَّار قريش؛ كالذي في {نَعِدُهُمْ}. وقوله: {نَأْتِي}: معناه: بالقُدْرة والأمر. و{الأرض}: يريد بها اسم الجنس، وقيل: يريد أرض الكفَّار المذكورين، المعنى: أو لم يروا أنا نأتي أرْضَ هؤلاء بالفَتْح عليك، فننقصها بمَا يَدْخُلُ في دِينِكَ من القبائلِ والبلادِ المجاورَة لهم، فما يؤمنهم أنْ نمكِّنك منْهم أيضاً؛ قاله ابن عباس، وهذا على أن الآية مدنيَّةٌ، ومَنْ قال: إِن الأَرْضَ اسم جنسٍ، جعل انتقاص الأرض بتخريبِ العُمْران الذي يُحِلُّه اللَّه بالكُفَّار، وقيل: الانتقاص بمَوْت البشر، ونقْصِ الثمار والبَرَكَةِ، وقيل: بموتِ العلماءِ والأخيارِ؛ قاله ابن عباس أيضاً، وكلُّ ما ذكر يدخل في لفظ الآية، وجملةُ معنَى هذه الآية: الموعظَةُ وضَرْبُ المثل، وقال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رَبَاح في معنَى {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: بذَهَابِ فقهائها، وخيار أهلها؛ وعن وكيع نحوه. وقال الحسن: نقصانُهَا: هو بظهور المسلمين على المُشْركين. قال أبو عمر: وقول عطاء في تأويل الآية حَسَنٌ جِدًّا، تلَقَّاه أهل العلْمِ بالقبول، وقولُ الحسن أيضاً حسن. انتهى. وقوله سبحانه: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا}: أي: العقوبات التي أحلَّها بهم، وسمَّاها مكراً على عُرْفِ تسمية العقوبة باسم الذنب، وباقي الآية تحذيرٌ ووعيدٌ. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً}: المعنى: ويكذِّبك يا محمَّد هؤلاءِ الكفرةُ؛ ويقولون: لستَ مرسلاً. {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا}: أي: شاهداً بيني وبينكم، {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}: قال قتادة: يريدُ مَنْ آمَنَ منهم؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وغيره، كَمُلَ تفسيرُ السُّورة، وصلى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وصَحْبِهِ وسلَّم تسليماً.
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} قوله عزَّ وجلَّ: {الر كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} قال القاضِي ابنُ الطَّيب، وأبو المعالى وغيرهما: إِن الإِنزال لم يتعلَّق بالكلامِ القَدِيمِ الذي هو صفةُ الذاتِ، لكَنْ بالمعاني التي أفْهَمَهَا اللَّهُ تعالَى جِبْرِيلِ عليه السلام من الكَلاَم. وقوله: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور}: في هذه اللفظةِ تشريفٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَمَّ الناس؛ إِذ هو مبعوثٌ إِلى جميعِ الخَلْق، وقرأ نافعٌ وابن عامرٍ: «اللَّهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأَرْضِ» برفع اسم اللَّه؛ على القطْعِ والابتداءِ، وقرأ الباقون بخَفْضِ الهَاء، {وَوَيْلٌ}: معناه: وشدَّةٌ وبَلاَءٌ، وباقي الآية بيِّن.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)} وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...} الآية، هذه الآيةُ طَعْنٌ وردٌّ على المستغربين أمْرَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وباقي الآية بيِّن. وقوله سبحانه لموسَى: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ الله}: أي: عظْهم بالتهديدِ بِنِقَمِ اللَّهِ التي أحلَّها بالأمم الكَافرة قَبْلهم، وبالتَّعْديدِ لنعمه علَيْهم، وعَبَّرَ عن النعم وَالنِّقَمِ ب «الأَيَّامِ»؛ إِذ هي في أيامٍ، وفي هذه العبارةِ تعظيمُ هذه الكوائنِ المذكَّر بها، وفي الحديثِ الصحيحِ: «بَيْنَمَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ أيَّامَ اللَّهِ...» الحديث، في قصة موسَى مع الخَضِرِ. قال عياضٌ في «الإِكمال»: {أَيَّامِ الله}: نَعْمَاؤه وبلاؤه، انتهى. وقال الداوودي: وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ الله}: قال: بِنِعَمِ اللَّهِ " وعن قتادة: {لأيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: قال: نعْمَ، واللَّهِ، العبدُ إِذا ابتلي صَبَرَ، وإِذا أُعْطِيَ شَكَرَ. انتهى. وقال ابنُ العربيِّ في «أَحكامه»: وفي {أَيَّامِ الله} قولان: أحدهما: نعمه. والثاني: نقمه. انتهى.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)} وقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ...} الآية: «تأَذَّن»: بمعنى آذَنَ، أي: أعلم. قال بعضُ العلماء: الزيادةُ على الشُّكر ليستْ في الدنيا، وإِنما هي مِنْ نعم الآخرةِ، والدنيا أهْوَنُ من ذلك. قال * ع *: وجائزٌ أن يزيدَ اللَّه المؤمِنَ علَى شُكْره من نعمِ الدنيا والآخرةِ، «والكُفْرِ»؛ هنا: يحتمل أن يكون على بابه، ويحتملُ أنْ يكون كفرَ النِّعَمِ، لا كفْرَ الجَحْد، وفي الآية ترجيةٌ وتخويفٌ، وحكى الطبريُّ عن سفيان وعن الحسن؛ أنهما قَالاَ: معنى الآية: لَئِنْ شكرتم لأَزيدنكم مِنْ طاعتي. قال * ع *: وضعَّفه الطبريُّ، وليس كما قال، بل هو قويٌّ حَسَنٌ، فتأمَّلَهُ. * ت *: وتضعيفُ الطبريِّ بيِّن؛ من حيثُ التخصيصُ، والأصلُ التعميمُ. وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ}: هذا أيضاً من التذْكير بأيام اللَّه، وقوله سبحانه: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}: قيل: معناه: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم؛ إِشارةً على الأنبياء بالسُّكوت، وقال الحسن: رَدُّوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسُل تسكيتاً لهم، وهذا أشنَعُ في الرَّدِّ.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} وقوله عز وجل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ}: التقدير: أفي إِلاهية اللَّه شَكٌّ أو: أفي وحدانيَّة اللَّهِ شكٌّ، و«ما»؛ في قوله {مَا ءَاذَيْتُمُونَا} مصدريَّة، ويحتملُ أنْ تَكُونَ موصولةً بمعنى «الذي»، قال الداودي: عن أبي عُبَيْدةً {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي}: مجازه حيثُ أَقيمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ للحسابِ انتهى. قال عبد الحقِّ في «العاقبة» قال الربيع بن خَيْثَمٍ: مَنْ خافَ الوعيدَ، قَرُبَ عليه البعيد، ومَنْ طال أمله، ساء عمله. انتهى، وباقي الآية بيِّن.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)} وقوله سبحانه: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: {استفتحوا}: أي: طلبوا الحُكْم، و«الفَتَّاح» الحاكم، والمعنَى: أنَّ الرسل استفتحوا، أيْ: سألوا اللَّه تبارَكَ وتعالَى إِنفاذَ الحُكْمِ بنصرهم. وقيل: بلِ استفتح الكفَّارُ على نحو قولِ قريشٍ: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا...} [ص: 16] وعلى نحو قول أبي جَهْل يوم بَدْرٍ: اللَّهم، أقطعنا للرَّحِمِ، وأتيانا بمَا لاَ نَعْرِفُ، فاحنه الغَدَاةَ، وهذا قولُ ابنِ زيدٍ، وقرأَتْ فرقةٌ: «واستفتحوا»- بكسر التاء-؛ على معنى الأمر للرسُلِ، وهي قراءَة ابن عبَّاس ومجاهدٍ وابن مُحَيْصِنٍ: {وَخَابَ}: معناه: خسر ولم ينجحْ، وال {جَبَّارٍ}: المتعظِّم في نفسه، وال {عَنِيدٍ}: الذي يعاند ولا يناقد. وقوله: {مِّن وَرَائِهِ}: قال الطبري وغيره: مِنْ أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79]، وليس الأمر كما ذكروا، بل الوَرَاءُ هنا وهنَاكَ على بابه، أي: هو ما يأتي بَعْدُ في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحَوَادِثِ بالأَمَامِ والوراءِ، إِنما هو بالزَّمَانِ، وما تقدَّم فهو أمام، وهو بَيْن اليد؛ كما نقول في التوراة والإِنجيل: إنهما بيْنَ يدَي القرآن، والقرآنُ وراءهم، وعلَى هذا فما تأخَّر في الزمَانِ فهو وراء المتقدِّم، {ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ}: «الصديد»: القَيْح والدمُ، وهو ما يسيلُ من أجْسَادِ أهْلِ النَّار؛ قاله مجاهد والضَّحَّاك.
{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} وقوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}: عبارةٌ عن صعوبة أمره عليهم، وروي أنَّ الكافر يؤتَى بالشَّرْبة من شراب أهْل النَّار، فيتكَّرهها، فإِذا أدنيَتْ منه، شَوَتْ وجهه، وسقَطَتْ فيها فروة رأسِهِ، فإِذا شربها، قَطَّعت أمعاءه، وهذا الخبر مفرَّق في آيات من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}، أي: مِنْ كل شعرة في بَدَنِهِ؛ قاله إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ، وقيل: مِنْ جميع جهاته السِّتِّ، {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}: لا يراحُ بالموت، {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: قال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ العذابُ الغليظ: حَبْسُ الأنفاسِ في الأجسادِ، وفي الحديث: " تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ تَكَلَّمُ بِلَسَانٍ طَلِقٍ ذَلِقٍ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَلَهَا لِسَانٌ تَكَلَّمُ بِهِ، فَتَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلها آخَرَ، وبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وبِمَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَتَنْطَلِقُ بِهِمْ قَبْلَ سَائِرِ النَّاسِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فتنطوي علَيْهم، فتقذفُهُمْ في جهنَّم "، خرَّجه البزَّار، انتهى من «الكوكب الدري». وقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وصف اليوم بالعُصُوفِ، وهي من صفات الريحِ بالحقيقة؛ لما كانت في اليوم، كقول الشاعر: [الطويل] ....................... *** وَنِمْت وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ وباقي الآية بيِّن. {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا}: معناه: صاروا في البِرَازِ، وهي الأرضُ المتَّسِعَة، {فَقَالَ الضعفاء}، وهم الأتْبَاعُ {لِلَّذِينَ استكبروا}، وهم القادة وأهْلُ الرأْي، وقولهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} «المحيصُ»: المفرُّ وَالمَلْجَأَ مأخوذٌ منِ حَاصَ يَحيصُ؛ إِذا نفر وفر؛ ومنه في حديث هِرَقْلَ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلى الأَبْوَابِ» وروي عن ابن زيدٍ، وعن محمد بن كَعْب؛ أن أهْلَ النار يقولُونَ: إِنما نال أَهْلُ الجَنَّةِ الرحْمَةَ بالصبر على طاعة اللَّه، فتعالَوْا فَلْنَصْبِرْ، فَيَصْبِرُونَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، فلا ينتفعونَ، فيقولُون: هلمَّ فَلْنَجْزَعْ، فَيَضِجُّونَ ويَصِيحُونَ ويَبْكُونَ خَمْسَمِائَةِ سنة أُخرَى، فحينئذٍ يقولُونَ هذه المقَالَةَ {سَوَاءٌ عَلَيْنَا...} الآية، وظاهر الآية أنهم إِنما يقولونها في مَوْقِفِ العرْض وقْتَ البروز بين يَدَي اللَّه عزَّ وجلَّ.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر}: المراد هنا ب «الشَّيْطَان» إِبليسُ الأَقْدَمُ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق عُقْبَة بنِ عَامِرٍ، أَنه قال: يقوم يومَ القيَامَةِ خَطيبَان؛ أَحدهما: إِبليسْ يقوم في الكَفَرة بهذه الأَلْفَاظِ، والثاني: عيسَى ابنُ مَرْيَمَ يقومُ بقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ...} الآية [المائدة: 117]، وروي في حديث؛ أنَّ إِبليس إِنما يقوم بهذه الألفاظ في النَّار علَى أهلها عند قولهم: {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] في الآية المتقدِّمة؛ فعلى هذه الرواية، يكون معنى قوله: {قُضِيَ الأمر}، أي: حصل أهْلُ النار في النَّار، وأهْلُ الجنة في الجنة، وهو تأويلُ الطبريِّ. وقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سلطان}: أي: من حجة بيِّنة، و{إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ}؛ استثناء منقطعٌ، ويحتملُ أنْ يريد ب «السُّلْطان» في هذه الآية: الغلبة والقُدْرة والمُلْك، أي: ما اضطررتكم، ولا خوَّفتكم بقُوَّة منِّي، بلْ عرضْتُ عليكم شيئاً فأَتَى رأْيُكُمْ عليه. وقوله: {فَلاَ تَلُومُونِي}: يريد: بزعمه؛ إِذ لا ذَنْبَ لي، {وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، أي: في سوء نَظَركم في اتباعي، وقلَّةِ تثبُّتكم؛ {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}: «المُصْرِخُ»: المغيث، والصَّارِخُ: المستغيث، وأما الصَّريخ، فهو مصدَرٌ بمنزلة البَريح، وقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ}: «ما» مصدريةٌ، وكأنه يقول: إِني الآن كافرٌ بإِشراككم إِيَّايَ مع اللَّه قَبْلَ هذا الوَقْتِ، فهذا تَبَرٍّ منه، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: «الإِذن»؛ هنا: عبارةٌ عن القضاء والإِمضاء.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}: {أَلَمْ تَرَ}: بمعنى: ألم تعلَمْ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمة الطَّيِّبة: هي لا إله إِلا اللَّه، مَثَّلها اللَّه سبحانه بالشَّجَرة الطَّيِّبة، وهي النَّخْلة في قول أكثر المتأوِّلين، فكأنَّ هذه الكلمة أصلها ثابتٌ في قلوبِ المؤمنين، وفَضْلُها وما يَصْدُرُ عنها من الأفعال الزكيَّة وأنواعِ الحسناتِ هو فَرْعُها يَصْعُد إِلى السماء مِنْ قِبَلِ العبدِ، والحِين: القطعةُ من الزمان غيرُ مَحْدُودةٍ؛ كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]، وقد تقتضي لفظة «الحِينِ» بقرينتها تحديداً؛ كهذه الآية، و«الكلمةُ الخبيثةُ»: هي كلمة الكفر، وما قاربها مِنْ كلامِ السوءِ في الظلمِ ونحوه، و«الشجرة الخبيثة»: قال أكثر المفسِّرين: هي شجرة الحَنْظَل؛ ورواه أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهذا عندي عَلَى جهة المَثَلِ، «اجتثت»: أي: اقتلعت جثتها بنزع الأصولِ، وبقيَتْ في غاية الوهَنِ والضَّعْفِ، فتقلبها أقلُّ ريحٍ، فالكافر يَرَى أنَّ بيده شيئاً، وهو لا يستقرُّ ولا يُغْنِي عنه؛ كهذه الشجرة الذي يُظَنُّ بها عَلَى بُعْدِ أو للجَهْلِ بها أنها شيءٌ نافع، وهي خبيثةُ الجَنَي غير باقية.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)} وقوله سبحانه: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة}: {القول الثابت فِي الحياة الدنيا}: كلمةُ الإِخلاصِ والنجاةِ من النَّار: «لا إله إِلا اللَّه»، والإِقرارُ بالنبوَّة، وهذه الآية تعمُّ العالَمَ مِنْ لدنْ آدم عليه السلام إِلى يوم القيامةِ. قال طَاوُسٌ، وقتادة، وجمهور من العلماء: {الحياة الدنيا} هي مدَّة حياةِ الإِنسان، {وَفِي الأخرة} وَقْتُ سؤاله في قَبْرِهِ، وقال البَرَاء بنَ عَازِبٍ وجماعة: {فِي الحياة الدنيا}: هي وقتُ سؤاله في قَبْره، ورواه البَرَاءُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في لفظ متأوَّلٍ، وفي الآخرة: هو يوم القيامة عندَ العَرْض، والأولُ أحسن، ورجَّحه الطبريُّ. * ت *: ولفظ البخاريِّ عن البراءِ بْنِ عازِبٍ أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة} " انتهى، وحديثُ البَرَاءِ خَرَّجه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائيُّ وابنُ ماجه، قال صاحب «التذكرة»: وقد رَوَى هذا الحديثَ أبو هريرة وابن مسعود وابنُ عباس وأبو سَعِيدٍ الخدريُّ قال أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: كُنَّا في جنازةٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى في قُبُورِهَا فإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ في هَذَا الرَّجُلِ... " الحديثَ، وفيه: فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلاَّ هَبلَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الأخرة وَيُضِلُّ الله الظالمين وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} انتهى. قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البِرِّ: وُروِّينا من طرق؛ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ: " كَيْفَ بِكَ يَا عُمَرُ، إِذَا جَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، إِذَا مُتَّ، وانطلق بِكَ قَوْمُكَ، فَقَاسُوا ثَلاَثَةَ أَذْرُعٍ وشِبْراً في ذِرَاعٍ وَشِبْرٍ، ثُمَّ غَسَّلُوكَ، وَكَفَّنُوكَ، وَحَنَّطُوكَ، ثُمَّ احتملوك، فَوَضَعُوكَ فِيهِ، ثُمَّ أَهَالُوا عَلَيْكَ التُّرَابَ، فَإِذَا انصرفوا عَنْكَ أَتَاكَ فَتَّانَا الْقَبْرِ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَصْواتُهُمَا كَالرَّعْدِ القَاصِفِ، وَأَبْصَارُهُمَا كَالبَرْقِ الخَاطِفِ يَجُرَّانِ شُعُورَهُمَا مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ، لَوْ اجتمع عَلَيْهَا أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يَقْلِبُوهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِن فَرِقْنَا فَحَقٌّ لَنَا أَنْ نَفْرَقَ أَنُبْعَثُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: إِذَنْ أَكْفِيَكَهُمَا "، انتهى، و«الظالمون»؛ في هذه الآية: الكافرون، {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ}، أي: بحقِّ الملك؛ فلا رادَّ لأَمره، ولا معقِّب لِحُكْمه، وجاءتْ أحاديثٌ صحيحةٌ في مُسَاءلة العبد في قبره، وجماعة السُّنَّة تقولُ: إِنَّ اللَّه سبْحَانه يَخْلُقُ للعَبْدِ في قَبْرِهِ إِدراكاتٍ وتحصيلاً: إِما بحياةٍ؛ كالمتعارفة، وإِما بحضورِ النَّفْس، وإِن لم تتلبَّس بالجَسَدِ كالعُرْف، كلُّ هذا جائزٌ في قُدْرة اللَّه تَبَارَكَ وتعالى غير أنَّ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ؛ «أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ»، ومنها: أنه يرى الضوء كَأَنَّ الشمْسَ دَنَتْ للغروب، وفيها أنه يُرَاجَعُ، وفيها: «فَيُعَادُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ»، وهذا كلُّه يتضمَّن الحياةَ، فسُبْحَانَ مَنْ له هذه القدرةُ العظيمةُ، وقوله سبحان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا}: المراد ب {الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله}: كَفَرَةُ قُريشٍ، وقد خرَّجه البخاريُّ وغيره مسنداً عن ابن عباس انتهى، والتقديرُ: بدَّلوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْراً، ونِعْمَةُ اللَّه تعالى؛ في هذه الآية: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم ودِينُهُ، {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ}، أي: مَنْ أطاعهم، وكأنَّ الإِشارة والتعنيف إِنما هو للرؤوس والأَعْلاَمِ، و{البوار}: الهلاك، قال عطاءُ بنُ يَسَارٍ: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في قَتْلَى بدْر، و«الأنداد»: جمع نِدٍّ، وهو المثيلُ، والمرادُ: الأصنام، واللام في قوله: {لِّيُضِلُّواْ}- بضم الياء-: لام كَيْ، وبفتحها: لامُ عاقبةٍ وصيرورةٍ، والقراءتان سبعيَّتَانِ.
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} وقوله سبحانه: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة...} الآية: «العباد»: جمع عبدٍ، وعُرْفُه في التكرمة بخلافِ العبيدِ، و«السر»: صدقة التنقُّل، و«العلانية»: المفروضةُ؛ هذا هو مقتضى الأحاديثِ، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكَاةِ الأَموالِ مجملاً، وكذلك فسَّر الصلاة؛ بأَنها الخَمْسُ وهذا عندي منه تقريبٌ للمخاطَب. و«الخلال»: مصدرٌ من «خَالَلَ»، إِذا وادَّ وصافَى؛ ومنه الخُلَّة والخَلِيلَ، والمراد بهذا اليومِ يَوْمُ القيامة. وقوله سبحانه: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ}: هذه الآيةُ تذكيرٌ بآلائه سُبْحانه، وتنبيهٌ على قدرته التي فيها إِحْسَان إِلى البَشَر؛ لتقوم الحُجَّة عليهم، وقوله: {بِأَمْرِهِ}: مصدر أَمَرَ يَأْمُرُ، وهذا راجعٌ إِلى الكلامِ القديمِ القائِمِ بالذاتِ، و{دَائِبَيْنِ}: معناه: متمادِيَيْنِ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجَمَلِ الذي بَكَى وأَجْهَش إِليه: «إِنَّ هَذَا الجمَلَ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبَه»، أي: تديمه في الخِدْمَة والعَمَل، وظاهرُ الآية أنَّ معناه: دائبَيْن في الطلوع والغروبِ وما بينهما من المَنَافِعِ للناسِ التي لا تحصَى كثرةً، وعن ابن عباس أَنَّه قال: معناه: دائِبَيْنِ في طاعة اللَّه، وقوله سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} المعنى: أنَّ جنس الإِنسان بجملته قد أوتي من كلِّ ما شأنه أنْ يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس وغيره: «مِنْ كُلٍّ مَّا سَأَلْتُمُوهُ»- بتنوين كُلٍّ-، وروِيت عن نافع، وقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}، أي: لكثرتها وعِظَمها في الحَوَاس والقُوَى، والإِيجادِ بعد العَدَمِ والهدايةِ للإِيمان وغيرِ ذلك، وقال طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ حقَّ اللَّه تعالى: أَثْقَلُ من أَنْ يَقُومَ به العُبَّادُ، ونِعْمَهُ أَكثر مِنْ أَنْ يحصيها العبَادُ، ولكنْ أصْبِحُوا توَّابين، وأمْسُوا تَوَّابِين. * ت *: وَمِنْ «الكَلِمِ الفارقيَّة»: أيها الحَرِيصُ على نيلِ عَاجِلِ حظِّه ومراده؛ الغافلُ عن الاستعداد لمعاده تنبَّه لعظمة مَنْ وجودُكَ بإِيجادِهِ؛ وبقاؤك بإِرْفاده؛ ودوامك بإِمداده، وأنْتَ طفلٌ في حَجْر لُطْفه؛ ومهد عَطْفه؛ وحضانة حفظه، يغذِّك بلِبَانِ بِرِّهِ؛ ويقلِّبك بأيدي أياديه وفضله؛ وأنتَ غافلٌ عن تعظيم أمره؛ جاهلٌ بما أولاَكَ من لَطِيف سِرِّه؛ وفضَّلك به على كثيرٍ من خَلْقه، واذكر عهد الإِيجاد، ودوام الإِمْدَاد والإِرفاد؛ وحالَتَيِ الإِصْدَار والإِيراد؛ وفاتحة المبدأ وخاتمةَ المَعَاد. انتهى. وقوله سبحانه: {إِنَّ الإنسان}: يُريدُ به النوَعَ والجنْسَ، المعنَى: توجَدُ فيه هذه الخِلاَلُ، وهي الظُّلْم والكُفْر، فإِن كانَتْ هذه الخِلاَلُ من جاحِدٍ، فهي بصفةٍ، وإِن كانَتْ من عاصٍ فهي بصفةٍ أُخرَى.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)} وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا البلد آمِنًا} تقدَّم تفسيره. وقوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}: و{واجنبني}: معناه: امنعني، يقال: جَنَبَهُ كَذَا، وأَجْنَبَهُ؛ إِذا مَنَعَهُ من الأمْر وحَمَاهُ منْه. * ت *: وكذا قال * ص *: و«اجنبني»: معناه: امنعني، أصله من الجَانِبِ، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: أي: اجعلني جانباً من عبادتها. وقال الثعلبيُّ: {واجنبني}، أي: بعّدني واجعلني منْها على جانِبٍ بعيدٍ. انتهى، وهذه الألفاظ كلُّها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بَنِيَّ صُلْبه، وأما باقي نَسْله، فمنهم مَنْ عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إِفراطَ خَوْفه علَى نفسه ومَنْ حصل في رتبته، فكيف يَخَافُ أنْ يعبد صَنَماً، لكن هذه الآية ينبغي أنْ يُقْتَدَى بها في الخَوْفِ، وطَلَبِ حُسْنِ الخاتمة، و{الأصنام}: هي المنحوتةُ على خَلْقَة البَشَر، وما كان منحوتاً على غَيْرِ خلْقَة البَشَرِ، فهي أوثانٌ، قاله الطبريُّ عن مجاهد، ونسب إِلى الأصنام أنها أضَلَّتْ كثيراً من الناس تجوُّزاً، وحقيقةُ الإِضلال إِنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل: أراد ب {الأصنام} هنا: الدنانيرُ والدَّرَاهم. وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي}: ظاهره بالكُفْر؛ لمعادلة قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وإِذا كان ذلك كذلك، فقوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: معناه: بتوبَتِكَ على الكَفَرَةِ؛ حتى يؤمنوا لا أنَّه أراد أنَّ اللَّه يغفر لكَافِرٍ، وحمله على هذه العبارة ما كَانَ يأخذ نَفْسَهُ به من القَوْلِ الجميلِ، والنُّطْقِ الحسنِ، وجميلِ الأَدَبِ صلى الله عليه وسلم، قال قتاد: اسمعوا قوْلَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم: واللَّه ما كانُوا طَعَّانين ولا لَعَّانِينِ، وكذلك قولُ نبيِّ اللَّه عيسى عليه السلام: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، وأسند الطبريُّ عن عبد اللَّهِ بْن عَمْرٍو حديثاً: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، تلا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثم دعا لأمته فبَشَّرَ فيهم، وكان إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ يقول: مَنْ يأمن على نفْسه بَعْدَ خوف إِبراهيمَ الخليل على نَفْسِهِ مِنْ عبادة الأصْنام. وقوله: و{مِن ذُرِّيَّتِي}: يريد: إِسماعيل عليه السلام، وذلك أَنَّ سارَّة لمَّا غارَتْ بهاجَرَ بَعْدَ أَنْ ولدَتْ إِسماعيل، تشوَّش قلبُ إِبراهيم مِنْهُما، فروي أنَّه رَكِبَ البُرَاقَ هو وهَاجَر، والطفلُ، فجاء في يَوْمٍ واحدٍ من الشامِ إِلى بَطْنِ مَكَّة، فتركَهُما هناك، ورَكِبَ منصرفاً من يومه ذلك، وكان ذلك كلُّه بوحْيٍ من اللَّه تعالى، فلمَّا ولى، دعا بمضمَّن هذه الآية، وأمَّا كيفيَّة بقاء هَاجَرَ، وما صَنَعَتْ، وسائرُ خَبَر إِسماعيل، ففي كتابِ البخاريِّ وغيره، وفي السير، ذُكِرَ ذلك كلُّه مستَوْعَباً. * ت *: وفي «صحيح البخاري» من حديثه الطويل في قصَّة إِبراهِيمَ مع هَاجَرَ وولدِهَا، لما حَمَلَهُما إِلى مكَّة، قال: ولَيْسَ بمكَّة يَومَئِذٍ أَحَدٌ، وليس فيها ماءٌ، فوضعهما هنالِكَ، ووضَعَ عندهما جراباً فيه تمْر، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيم منطلقاً، فتبعْتهُ أمُّ إِسماعيل، فقالَتْ: يا إِبراهيم، أيْنَ تَذْهَبُ، وتَتْرُكُنَا بهذا الوادِي الذي لَيْسَ فيهِ أَنِيسٌ، ولا شَيْء، فقالَتْ له ذلك مِرَاراً، وجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِليها، فقالَتْ لَهُ: آللَّه أمَرَكَ بهذا؟ قال: نعمْ، قالتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثم رَجَعَتْ، فانطلق إِبراهيمُ حتى إِذا كان عند الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، استقبل بوجهه الْبَيْتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الدعَواتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فقال: «رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم}، حتى بَلَغَ: {يَشْكُرُونَ}. ..»الحديثَ بطوله وفي الطريقٍ: «قالَتْ: ياإِبراهيم إِلى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قال: إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: رَضِيتُ. انتهى. وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِدِ لأرباب القلوبِ والمتوكِّلين وأهْلِ الثقة باللَّه سُبْحَانه ما يَطُولُ بنا سرْدُهَا، فإِليك استخراجها، ولما انقطعَتْ هاجَرُ وابنها إِلى اللَّه تعالى، آواهما اللَّه، وأنْبَعَ لهما ماءَ زَمْزَمَ المبارَكَ الذي جَعَله غذاءً، قال ابنُ العربي: وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ". قال ابن العربيِّ: ولقد كُنْتُ مقيماً بمكَّة سنَةَ سَبْعٍ وثمانينَ وأربعمائة، وكنتُ أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كثيراً، وكلَّما شرِبْتُ، نَوَيْتُ بِهِ العِلْمَ والإِيمانَ، ونَسِيتُ أنْ أشربه للعَمَلِ، ففتح لي في العِلْمِ، ويا لَيْتَنِي شربْتُه لهما معاً؛ حتى يُفْتَحَ لي فيهما، ولم يُقَدَّر، فكان صَغْوِي إِلى العلْمِ أَكْثَرَ منه إِلى العمل، انتهى من «الأحكام». و«من»؛ في قوله: و{مِن ذُرِّيَّتِي}؛ للتبعيضِ؛ لأن إِسحاق كان بالشَّام، و«الوادِي»: ما بين الجبَلَيْن، وليس مِنْ شرطه أَنْ يكون فيه ماءٌ، وجَمْعُه الضميرَ في قوله: {لِيُقِيمُواْ}: يدلُّ على أن اللَّه قد أعلمه أنَّ ذلك الطِّفْلَ سَيُعْقِبُ هناك، ويكونُ له نسلٌ، واللام في {لِيُقِيمُواْ}: لامُ كي؛ هذا هو الظاهر، ويصحُّ أَنْ تكون لام الأمر؛ كأنه رَغِبَ إِلى اللَّه سبحانه أَنْ يوفِّقهم لإِقامة الصلاة، و«الأفئدة» القلوبُ جمْع فؤادٍ، سمِّي بذلك، لاتِّقَادِهِ، مأخوذ من «فَأَد»، ومنه: «المُفْتَأَدُ»، وهو مستوقَدُ النَّار حيث يُشْوَى اللحْمُ. وقوله: {مِّنَ الناس}: تبعيضٌ، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بيِّن.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} وقوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة}: دعاء إِبراهيمُ عليه السلام في أمْر كان مثابراً عليه، متمسكاً به، ومتى دعا الإِنسان في مثْل هذا، فإِنما المَقْصِدُ إِدامةُ ذلك الأمْر، واستمراره قال السُّهَيْلِيُّ: قوله تعالى: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَّتِي} بحرف التبعيض، ولذلك أسلم بَعْضُ ذريته دُونَ بعضٍ، انتهى، وفاقاً لما تقدَّم الآن. وقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}: اختلف في تأويل ذلكَ، فقالَتْ فرقة: كان ذلك قَبْل يأسه من إِيمان أبيه، وتبيُّنه أنه عدُوٌّ للَّه، فأراد أباه وأُمَّه؛ لأنَّها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم ونوحاً عليهما السلام، وقرأ الزُّهْرِيُّ وغيره: «وَلِوَلَدَيَّ»؛ على أنه دعاءٌ لإِسماعيل وإِسحاق، وأنكرها عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وقال: «إِن في مُصْحَفِ أَبيِّ بنِ كَعْبٍ وَلأَبَوَيَّ».
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)} وقوله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ...} الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والخطابُ بقوله: {تَحْسَبَنَّ} للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، و{تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}، معناه: تُحِدُّ النظرَ، لفرط الفَزَعِ ولفَرْطِ ذلك يَشْخَصُ المُخْتَضَرُ، و«المُهْطِع» المسرع في مَشْيه؛ قاله ابنُ جُبَيْر وغيره، وذلك بِذِلَّة واستكانة، كإِسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجحُ الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإِهطاع شدَّة النظر من غير أنْ يَطْرِفَ، وقال ابنُ زَيْدٍ: «المُهْطِع»: الذي لا يرفع رأسَهُ، قال أبو عُبَيْدة: قد يكون: الإِهْطَاعُ للوجْهَيْنِ جميعاً: الإِسراع، وإِدَامَةُ النَّظَر، و«المُقْنِعُ»: هو الذي يَرْفَعُ رأْسَه قدُماً بوَجْهِهِ نحو الشيْءِ، ومِنْ ذلك قولُ الشاعر: [الوافر] يُبَاكِرْنَ الْعِضَاهَ بِمُقْنَعَاتٍ *** نَوَاجِذُهُنَّ كَالْحَدَإِ الوَقِيعِ يصفُ الإِبلَ عند رعْيها أَعاليَ الشَّجَر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوهُ الناسِ يوم القيامَةِ إِلى السماء لا يَنْظُرُ أَحدٌ إِلى أحد، وذكر المبرِّد فيما حَكَى عنه مكِّيٌّ: أن الإِقناع يوجَدُ في كلامِ العَرب بمعنَى: خَفْضِ الرأسِ من الذِّلَّة. قال * ع *: والأول أشهر. وقوله سبحانه: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}؛ أي: لا يَطْرِفُونَ من الحَذَرِ والجزعِ وشدَّة الحال. وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}: تشبيه محضٌ، وَجِهَةُ التشبيه يحتملُ أنْ تكون في فراغِ الأَفئدة من الخَيْرِ والرَّجاء والطمعِ في الرحمة، فهي متخرِّقة مُشَبِهَةٌ الهواءَ في تَفرُّغه من الأشياء، وانخراقه، ويحتمل أنْ تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صُدُورهم، وأنها تذهب وتجيءُ وتبلُغُ علَى ما رُوِيَ حناجرهم، فهي في ذلك كالهَوَاءِ الذي هو أبداً في اضطراب. وقوله سبحانه: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}: المراد باليَوْمِ: يومُ القيامةِ، ونصبُهُ على أنه مفعولٌ ب «أَنْذِر»، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليْسَتْ بموطنِ إِنذار، قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ عبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبي جَمْرَة: يجبُ التصْدِيقُ بكُلِّ ما أخبر اللَّه ورسُولُهُ به، ولا يتعرَّض إِلى الكيفيَّة في كلِّ ما جاء من أمْرِ الساعة وأَحْوَالِ يومِ القيامةِ، فإِنه أمْرٌ لا تسعه العُقُولُ، وطَلَبُ الكيفيَّة فيه ضعْفٌ في الإِيمانِ، وإِنما يجبُ الجَزْم بالتصديقِ بجميعِ مَا أخبر اللَّه بهِ، انتهى. قال الغَزَّالِيُّ: فَأَعلمُ العلماءِ وأعْرَفُ الحكماءِ ينكشفُ له عَقِيبَ المَوْت مِنَ العجائبِ والآياتِ ما لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكُنْ للعاقلَ هَمٌّ ولا غَمٌّ، إِلا التفكُّر في خَطَر تلك الأحوال، وما الذي ينكشفُ عَنْه الغِطَاء من شقاوةٍ لازمةٍ، أو سعادة دائمةٍ لكان ذلك كافياً في استغراق جميع العُمُر، والعَجَبُ من غَفْلتنا، وهذه العظائِمُ بَيْنَ أيدينا. انتهى من «الإِحياء». وقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ...} الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: {مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}: هو المُقْسَمُ عليه، وهذه الآية ناظرةٌ إِلى ما حَكَى اللَّه سبحانه عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)} وقوله سبحانه: {وَسَكَنتُمْ...} الآية: المعنَى: بقول اللَّه عزَّ وجلَّ: وسكَنْتُم أيها المُعْرِضُون عَنْ آيات اللَّه مِنْ جميعِ العالمِ في مَسَاكِن الذين ظَلَمُوا أنفسهم بالكُفْر من الأمم السَّالفة، فنزلَتْ بهم المُثَلاَثُ، فكان حَقُّكُم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}: أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائِيِّ: «وإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ»- بكسر اللام من «لِتَزُولَ» وفتح الأخيرة-؛ وهذا على أن تكون «إِنْ» نافيةً بمعنى «مَا»، ومعنى الآية تحقيرُ مَكْرِهم، وأنه مَا كَانَ لِتَزُولَ منه الشرائعُ والنبوَّاتُ وإِقدارُ اللَّه بها التي هي كالْجِبَالِ في ثبوتها وقوَّتها، هذا تأويلُ الحَسَن وجماعة المفسِّرين وتحتملُ عندي هذه القراءةُ أنْ تكونَ بمعنى تَعْظِيمِ مَكْرهم، أي: وإِن كان شديداً، وقرأ الكسائيّ: «وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ»- بفتح اللام الأولَى من لَتَزُولُ، وضمِّ الأخيرة-، وهي قراءة ابن عبَّاس وغيره، ومعنى الآية: تعظيمُ مكرِهِمْ وشدَّتُه، أي: أنه مما يشقى به، ويزيلُ الجبالَ عن مستقرَّاتها، لقوَّته، ولكنَّ اللَّه تعالى أبطله ونَصَرَ أولياءه، وهذا أشَدُّ في العبرة، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبيٌّ: «وإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ»، وذكر أبو حاتم أنَّ في قراءة أبيٍّ: «وَلَوْلاَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الجِبَالُ». وقوله سبحان: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ...} الآية: تثبيت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمَّته، ولم يكُنِ النبيُّ عليه السلام ممَّن يَحْسَبَنَّ مثْلَ هذا، ولكنْ خَرجَتِ العبارةُ هكذا، والمراد بما فيها من الزجْرِ غَيْرُهُ؛ {إِنَّ الله عَزِيزٌ}: لا يمتنعُ منْه شيء، {ذُو انتقام}: من الكَفَرة.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض...}، الآية: {يَوْمٍ} ظِرفٌ للانتقامِ المذْكُورِ قبله، وروي في تَبْدِيلِ الأرض أَخْبَارٌ منها في الصَّحِيحِ: " يُبَدِّلُ اللَّهُ هَذِهِ الأَرْضَ بأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قرصة نَقي "، وفي الصحيح: " إِنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُهَا خُبْزَةً يَأْكُلُ المؤمن مِنْهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ " وروي أنها تبدَّلُ أَرضاً من فِضَّةٍ، وروي أنها أرض كالفضَّة مِنْ بياضها، وروي أنها تبدَّل من نارٍ. قال * ع *: وسمعتُ من أبي رحمه اللَّه؛ أنه روي أنَّ التبديل يَقَعُ في الأرضِ، ولكنْ يبدَّل لكلِّ فريقٍ بما يقتضيه حالُهُ، فالمُؤْمِنُ يكُونُ على خُبْزٍ يأكُلُ منه بحَسَبِ حاجته إِليه، وفريقٌ يكونُ على فضَّة، إِن صحَّ السند بها، وفريقُ الكَفَرَةِ يَكُونُونَ على نارٍ، ونحو هذا ممَّا كله واقِعٌ تحْتَ قدرةِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، وأكثر المفسِّرين على أنَّ التبديلَ يكونُ بأرضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فيها، ولا سُفِكَ فِيهَا دَمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: " المؤمنون وقْتَ التبديل في ظلِّ العرش "، وروي عنه أنه قال: " النَّاسُ وقْتَ التبديل على الصِّراط "، ورُوِيَ أنه قال: " الناسُ حينئذٍ أضْيَافُ اللَّهِ، فلا يُعْجِزُهُم ما لَدَيْهِ " وفي «صحيح مسلم» من حديث ثَوْبَان " في سؤال الحَبْرِ، وقوله: يا مُحَمَّدُ، أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسموات؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «هُمْ فِي الظُلْمَةِ دُونَ الجسر» " الحديثَ بطوله، وخرَّجه مسلمٌ وابنُ مَاجَه جميعاً، قالا: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، ثم أسنَدَا عَنْ عائشة، قَالَتْ: " سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض السموات} فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسِ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ "، وخرَّجه الترمذيُّ من حديث عائشة، " قالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، فَأَيْنَ يَكُونُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ يَا عَائِشَةُ»، قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسن صحيح. انتهى من «التذكرة». {وَتَرَى المجرمين}: أي الكفَّار، و{مُّقَرَّنِينَ}: أي: مربوطين في قَرْنٍ، وهو الحَبْلُ الذي تُشَدُّ به رؤوس الإِبِلِ والبَقَرِ، و{الأصفاد}: هي الأغلال، واحِدُها صَفَد، والسَّرابيل: القُمُصُ، وال {قَطِرَانٍ}: هو الذي تهنأ به الإِبل، وللنار فيه اشتعال شديدٌ، فلذلك جعل اللَّهُ قُمُصَ أهْلِ النارِ منه، وقرأ عمر بن الخطاب وعليٌّ وأبو هريرة وابنُ عبَّاس وغيرهم: «مِنْ قِطْرٍ آنٍ»، والقِطْر: القَصْدِير، وقيل: النُّحَاس، وروي عن عمر أنَّه قال: ليس بالقَطِرَانِ، ولكنَّه النُّحَاس يسر بلونه، و«آن»: صفة، وهو الذائبُ الحارُّ الذي تناهَى حَرُّه؛ قال الحَسَن: قد سُعِّرَتْ عليه جهنَّم منْذُ خُلِقَتْ، فتناهَى حَرُّه. وقوله سبحانه: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ...} الآية: جاء من لفظة الكَسْب بما يعم المُسِيءَ والمُحْسِنَ؛ لينبِّه على أنَّ المحسن أيضاً يجازَى بإِحسانه خيراً. وقوله سبحانه: {هذا بلاغ لِّلنَّاسِ...} الآية: إِشارةٌ إِلى القرآن والوعيدِ الذي تضمنَّه، والمعنى: هذا بلاغٌ للناس، وهو لينذروا به وليذَّكَّر أولو الألباب، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وصَحْبِه وسلَّم تسليماً.
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} قوله عزَّ وجلَّ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}: قال مجاهد وقتادة: {الكتاب}: في الآية: ما نزل من الكُتُب قَبْل القرآن، ويحتمل أنْ يراد ب {الكتاب} القرآن: ثم تُعْطَفُ الصفَةُ عليه، و«رُبَّمَا»: للتقليلِ، وقد تجيء شاذَّةً للتكثير. وقال قوم: إِن هذه مِنْ ذلك، وأنكر الزَّجَّاج أنْ تجيءَ «رُبَّ» للتكثيرِ، واختلف المتأوِّلون في الوَقْت الذي يَوَدُّ فيه الكفَّار أنْ يكونوا مسلمين، فقالَتْ فرقة: هو عند معاينة المَوْتِ، حَكَى ذلك الضَّحَّاك، وقالَتْ فرقة: هو عند معايَنَةِ أهْوَالِ يومِ القيَامَة، وقال ابنُ عبَّاس وغيره: هو عِنْدَ دخولهم النَّار، ومعرفَتِهِم، بدخولِ المؤمنين الجَنَّة، وروي فيه حديثٌ من طريق أبي موسَى.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)} وقوله سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ...} الآية: وعيدٌ وتهديدٌ، وما فيه من المهادنة منسوخٌ بآية السيْف، وروى ابنُ المُبارَك في «رقائقه»، قال: أخبرنا الأوزاعيُّ عن عُرْوَةَ بن رُوَيْمٍ، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ وُلِدُوا في النَّعِيم، وغُذُوا به، هِمَّتُهُمْ أَلْوَانُ الطَّعَامِ، وَأَلْوَانُ الثِّيَابِ، يَتَشَدَّقُونَ بِالْكَلاَمِ " انتهى. وقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: وعيدٌ ثانٍ، وحكى الطبريُّ عن بعض العلماء؛ أنه قال: الأولُ في الدنيا، والثَّاني في الآخرة، فكيف تَطِيبُ حياةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الوعِيدَيْنِ. وقوله: {وَيُلْهِهِمُ الأمل}: أي: يشغلهم أمهلم في الدنيا، والتزيُّد منها. قال عبدُ الحَقِّ في «العَاقِبة»: اعلم رحمك اللَّه أنَّ تقصير الأمل مَعَ حُبِّ الدنيا متعذر، وانتظار المَوْتِ مع الإِكباب عَلَيْها غَيْرُ مُتَيَسِّر، ثم قال: واعلم أنَّ كثرة الاشتغال بالدنْيَا والمَيْلَ بالكلِّية إِليها، وَلَذَّةَ أمانيِّها تمنَعُ مرارةَ ذكْرِ المَوْت؛ أَنْ تَرِدَ على القلْب، وأنْ تَلِجَ فيه؛ لأن القَلْبَ إِذا امتلأ بشَيْءٍ، لم يكُنْ لشيءٍ آخر فيه مَدْخَلٌ، فإِذا أَرَادَ صاحبُ هذا القَلْبِ سَمَاعَ الحِكْمَة، والانتفاع بالموعظة، لم يكُنْ لهُ بُدٌّ من تفريقه، لِيَجِدَ الذَكْرُ فيه منزلاً، وتُلْفِيَ الموعظةُ فيه محلاًّ قابلاً، قال ابن السَّماك رحمه اللَّه: إِن الموتَى لَمْ يبْكُوا من الموت؛ لكنهم بَكَوْا مِنْ حَسْرة الفوت، فَاتَتْهُمْ واللَّهِ، دَارٌ لَمْ يتزوَّدوا منها؛ ودخلوا داراً لم يتزوَّدوا لها. انتهى. وإِنما حصل لهم الفَوْتُ؛ بسبب استغراقهم في الدنيا، وطولِ الأمل المُلْهِي عن المعادِ، ألهمنا اللَّه رُشْدَنَا بمَنِّه. وقوله سبحانه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ...} الآية: أي: فلا تستبطئَنَّ هلاكَهُم، فليس مِنْ قريةٍ مُهْلَكَةٍ إِلا بأَجَلٍ، وكتابٍ معلومٍ محدودٍ.
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر...} الآية: القائلون هذه المقالة هُمْ كُفَّار قُريشٍ، «ولو ما» بمعنى: لولا، فتكون تحضيضاً؛ كما هي في هذه الآية، وفي البخاريِّ: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا}: هَلاَّ تأتينا. وقوله: {إِلاَّ بالحق}: قال مجاهدٌ: المعنى: بالرسالةِ والعذاب، والظاهرُ أنَّ معناه كما ينبغي ويَحِقُّ من الوحْيِ والمنافعِ التي أراها اللَّه لعباده، لا على اقتراح كافرٍ، ثم ذكَر عادَتَهُ سبحانَهُ في الأُمَمِ من أنَّه لم يأتهم بآيَةِ اقتراح، إِلا ومعها العَذَابُ في إِثِرها إِن لم يُؤْمِنوا، والنَّظِرَة: التأخير. وقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر}: رَدٌّ على المستَخفِّين في قولهم: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر}، وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون}: قال مجاهدٌ وغيره: الضميرُ في «له» عائدٌ على القرآن، المعنى: وإِنا له لحافِظُونَ من أنْ يبدَّل أو يُغَيَّر.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين} الآية: تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أيْ: لا يضقْ صدْرُكَ، يا محمَّد، بما يفعله قومُكَ من الاستهزاء في قولهم: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر}، وغير ذلك، و«الشيعة»: الفرقة التابعة لرأْسٍ مَّا. * ت *: قال الفرَّاء {فِي شِيَعِ الأولين} إِنَّه من إِضافة الموصوفِ إِلى صفته ك {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95]، و{جَانِبِ الغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وتأوَّله البصريُّون على حذف الموصوفِ، أي: شيع الأمم الأولين. انتهى من * ص * وقوله سبحانه: {كذلك نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين}: يحتمل أنْ يكون الضَّميرُ في {نَسْلُكُهُ} يعودُ على الذكْر المحفوظِ المتقدِّم، وهو القرآن، ويكون الضميرُ في «به» عائداً عليه أيضاً، ويحتمل أن يعود الضميران معاً على الاستهزاء والشرك ونحوه، والباء في «به»: باء السبب، أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويحتملُ أنْ يكون الضمير في {نَسْلُكُهُ} عائداً على الاستهزاء والشركِ، والضمير في «به» عائداً على القرآن، والمعنى، في ذلك كلِّه، ينظر بعضه إِلى بعض، و{نَسْلُكُهُ}: معناه: ندخله و{المجرمين}؛ هنا: يراد بهم كُفَّار قريش، ومعاصرو النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} عمومٌ، معناه الخصوصُ فيمن حُتِمَ عليه، وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين}: أي: على هذه الوتيرَةِ، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم}، أي: على قريشٍ وكفَرَةِ العَصْر، والضميرُ في قوله: {فَظَلُّواْ} عائدٌ عليهم، وهو تأويلِ الحَسَنِ، و{يَعْرُجُونَ}: معناه يَصْعَدُون، ويحتملُ أنْ يعود على الملائكةِ، أي: ولو رأوا الملائكة يَصْعَدُون ويتصرَّفون في بابٍ مفتوحٍ في السماء لما آمنوا، وهذا هو تأويلُ ابنِ عبَّاسٍ، وقرأ السبْعَةُ سِوَى ابن كثيرٍ: «سُكِّرَتْ»- بضم السِّين وشدِّ الكاف-، وقرأ ابن كثير بتخفيف الكافِ، تقول العربُ: سَكِرَتِ الرِّيحُ تَسْكَرُ سُكُوراً، إِذا ركَدَتْ، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولاً، وسَكِرَ الرجُلُ من الشَّرابِ، إِذا تغيَّرت حاله وركَدَ، ولم ينفذ لما كان بسبيله أنْ ينفذ فيه، وتقول العرب: سَكَرْتُ البَثْقَ في مجاري المَاءِ سكراً؛ إِذا طَمَسْتَهُ وَصَرَفْتَ الماء عنه، فلم يَنْفذ لوجْهه. قال * ع *: فهذه اللفظةِ «سُكِّرَتْ»- بشدِّ الكافِ- إِن كانَتْ من سُكْرِ الشراب، أوْ من سُكُور الريحِ، فهي فعلٌ عُدِّيَ بالتضعيفِ، وإِن كانَتْ من سكرِ مجاري الماءِ، فتضعيفُها للمبالغة، لا للتعدِّي، لأن المخفَّف من فعله متعدٍّ، ومعنى هذه المقالةِ منهم: أي: غُيِّرَتْ أبصارنا عما كانَتْ عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائقَ الأشياءِ: كما كانَتْ تفعلُ.
|